الرئيسية / أعمدة الجسور / هكذا حرر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي واستكمل جهاده من مصر

هكذا حرر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي واستكمل جهاده من مصر

محمد العشوري.

كلما حل  شهر فبراير من كل سنة يتذكر الشعب المغربي ومعه الأمة الإسلامية أحد رموز مناهضة ومقاومة المستعمر وأحد أبرز أمراء الجهاد ضد التوسع الإمبريالي، إنه الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، (وافته المنية بتاريخ 06فبراير 1963) الذي كبد خسائر فادحة للاستعمار الإسباني شمال المغرب، كان أكبرها خلال معركة أنوال التي انتصر فيها الأمير المجاهد رفقة 3500 مجاهد على الجيش الإسباني البالغ عدد أكثر من 25 ألف جندي مجهز بأحدث التجهيزات والمعدات الحربية آنذاك وبتدريب عال المستوى، حيث قتل فيها قائد الجيش الجنرال سلفستري وأسر 700 جندي اسباني ووقع أكثر من 15 ألف جندي أخر بين قتيل وجريح، كما غنم ما كان بيدهم من الأسلحة والمعدات، ليكون بذلك الانتصار المدوي الذي هز أركان إسبانيا والدول الاستعمارية كافة.

وبذلك أطلق الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أمل التحرر والانعتاق من الاستعمار لدى كل الشعوب المستعمرة في العالم أجمع والعالم الإسلامي بشكل خاص.

وللحد من انتصارات الأمير المجاهد بريف المغرب، تظافرت جهود المستعمرين، وخاصة الاستعمارين الفرنسي والاسباني، الذين استعانوا بالخائن الريفي (المسمى الماريشال أمزيان) وألاف الخونة من أبناء الريف، الذين كانوا على معرفة لتضاريس وشعاب المنطقة ولتكتيكات القتال المعتمدة من طرف القبائل المجاهدة، حيث استعملوا الأسلحة والقنابل الكيماوية وأسلحة محرمة دوليا، حيث شددوا الخناق على الريف ليضطر الأمير في الأخير ومن أجل حماية لأرواح الأهالي المدنيين،  لتسليم نفسه للسلطات الفرنسية، حيث اقتحم بجواده إحدى الثكنات العسكرية الفرنسية، لتقوم فرنسا باسره ونفيه.

بعد أسر الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، ونفيه في جزيرة “رينيون” في المحيط شرق مدغشقر لمدة 21 سنة، ونتيجة للظروف الصعبة التي كانت تواجهها فرنسا في المغرب نتيجة نشاط العاهل المغربي محمد الخامس قبل وبعد خطابه في طنجة، وكذا نشاط الحركة الوطنية داخل وخارج المغرب، والتي كانت من أبرز ما قامت به هو تأسيس ” مكتب المغرب العربي ” بالعاصمة المصرية القاهرة، وفي محاولة منها لاستعمال الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، كوسيلة ضغط وتهديد في وجه السلطان المغربي، وافقت الحكومة الفرنسية يوم 25 فبراير 1947م على نقل الأمير من منفاه إلى جنوب فرنسا قرب الحدود مع اسبانيا.

فتم نقل الأمير ومن معه بواسطة الباخرة البانامية ( س .س. كاتومبا ) ، وفي رحلتها توقفت الباخرة بميناء عدن جنوب الجزيرة العربية، فنزل الأمير ومعه شقيقه وعمه للصلاة بجامع قريب من الميناء، وإذ داك تعرف عليهم بعض العرب الذين عرفوا تاريخ البطل وما قدمه لبلاده وللعرب والمسلمين، وما قام به من إذلال للمستعمر الفرنسي والإسباني، فتمكنوا من معرفة خط سير الباخرة والموانئ التي سترسو بها للتزود بالوقود، وكانت من بينها مرسى السويس وبور سعيد المصريين، فقام ” الأهدل بن حمد اليمني العدني ” بمراسلة المجاهد المناضل ” أبو الحسن محمد علي الطاهر الفلسطيني ” صاحب جريدة الشورى، والشيخ ” محمد لخضر حسين ” صاحب جبهة الدفاع عن شمال افريقيا وجمعية الهداية الإسلامية، يخبرهما بما علم حول البطل المغربي، وقد وصلت هذه الرقية يوم 27 ماي 1947م.

ومباشرة بعد توصله بالبرقية قام محمد علي الطاهر بالتوجه بها إلى مكتب المغرب العربي، وكان قد حل به مؤخرا كل من عبد الخالق الطريس، وعلال الفاسي، فاجتمع رجال المكتب حول البرقية يفكرون في ما يجب القيام به اتجاه الزعيم المغربي، وكان عموم الحاضرين يرون وجوب استقبال الزعيم بفرنسا، وإذا بعبد الخالق الطريس يقول بصوت عال ” علا ماينزلش في مصر .. “، ولم يكن وقتها لهم سوى اتصالات سطحية وفي نطاق محدود مع بعض الشخصيات العربية ذات الشهرة في النضال، ولم يكن بمقدور أي منهم أن يجد طريقا للاتصال بالجهات العليا أو الدوائر المسؤولة ذات القرار، وهنا ظهر ” أمحمد أحمد بن عبود ” الذي كان مندوبا للخليفة السلطاني الأمير ” الحسن بن المهدي ” لدى الجامعة العربية، وهو صاحب الفضل الأكبر في إنزال الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك نظرا لما كان له من نشاط وعلاقات مكثفة وذات وزن ثقيل وصلت حد الخروج مع فاروق ملك مصر في رحلة صيد، فاستغل بن عبود ذلك للقيام بما يجب لإنقاذ البطل المغربي، فكان أن اتصل” بكريم خليل ثابت ” المستشار الصحفي لفاروق، وقد تجند لمساعدة بن عبود ودله على الطريق التي توصله مستعجلا إلى فاروق الذي لم يكن لغيره أن يبث في هذا الموضوع.

و حسب ما جاء في كتاب التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير للأستاذ عبد الكريم الفيلالي، يقول عبد المجيد بن جلون ” وقد اضطلع الأستاذ محمد بن عبود رئيس الوفد المراكشي بالجامعة العربية بمهمة التحرير هذه فما كادت الباخرة كاتومبا تصل إلى السويس حتى كان في استقبالها، واستطاع الاتصال بالأمير وبعد حوار دام ساعتين رجع الأستاذ إلى القاهرة وهو يحمل رسالة من الأمير إلى جلالة الملك فاروق، وما كادت الباخرة تصل بورسعيد حتى كان في استقبالها مرة أخرى ، ولم يمر أكثر من يوم واحد حتى كان الأمير في طريقه إلى القاهرة حرا طليقا، ونشير هنا إلى أن الخلاص كان بتاريخ 31/05/1947″.

وبذلك تمكن أمحمد بن عبود من أن يحقق أمرا كان يعد من المستحيلات، وقد كان في استقبال الأمير عند نزوله من الباخرة كل من المندوب الملكي ” محمد حلمي ” ومحافظ مدينة بور سعيد ” فؤاد شيرين باشا “، إضافة إلى المناضلين المغاربة عبد الخالق الطريس وعلال الفاسي وعبد المجيد بن جلون والزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، وبدعم من الخليفة الأمير الحسن بن المهدي عمل بن عبود على مرافقة وتهيئة كل الوسائل لاستقبال الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.

وقد أثار إنقاذ الأمير الخطابي حنق وجنون الفرنسيين، فصبوا جام غضبهم على مصر والمصريين، لما شكله الدعم المصريين عوائق لفرنسا أمام تنفيذ مخططاتها الاستعمارية بالمغرب، وقد روت وكالات الأنباء في ثاني أيام يونيو من سنة 1947م، أن وزير الخارجية الفرنسية ” جورج بيدو ” قدم للسفير المصري بباريس احتجاجا شديد اللهجة على ما سماه تآمر الحكومة المصرية وتهريبها لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، وكان جواب السفير المصري أن بلاده لم تقم سوى بما من حقها في قبول لاجئ سياسي التجأ إليها. وقد اشتد هذا الصراع وزاد تضخما بعد خلع الملك محمد الخامس عن عرشه سنة 1953م.

وقد ظلت الصحافة المصرية والعربية شهرين كاملين تحرر المقالات المتميزة حول القضية المغربية وجهاد رجالها، ولا تترك فرصة تمر دون أن تنشر للمجاهد الكبير الأحاديث والحوارات الطيبة، وتعلق عليها بما يفيد قضية المغرب ويرفع من شأن رجالها وكان لتحرير الأمير عظيم الصدى والأثر.

أما الصحافة الفرنسية فقد أخد الموضوع بها اهتمام الصفحات الأولى لبضعة أسابيع، معتبرة أن الحدث يعد إهانة للشعب الفرنسي. وكذلك كان اهتمام الصحف البريطانية والأمريكية، التي أشادت بالبطل المغربي وبسمعته في المشرق والمغرب.

وتم استقبل الخطابي من طرف الملك فاروق، الذي دعاه لتناول الغداء معه على المائدة الملكية، وقد حضر هذه المأدبة كل من كريم ثابت و محمد حلمي وابن عبود، وقد استمع الملك فاروق بإصغاء لحديث ضيفه وسأله عن حرب الريف، كما صرح الملك المصري بأنه لا يقصد من استضافته لمحمد بن عبد الكريم الخطابي والعناية به أي غرض سياسي، معتبرا أنه من الواجب عليه حماية مجاهد ضحى في سبيل بلاده، مؤكدا أنه يحمل كل العطف والتقدير لجلالة السلطان المغربي محمد بن يوسف.

وعمل بن عبود في هذا اللقاء مع ملك مصر، على أن يذهب المجاهد إلى مصحة خاصة قصد العلاج، نظرا لظروفه الصحية السيئة، وفعلا قضى الأمير فترة الاستشفاء في المستشفى الملكي تم مستشفى المواساة بالإسكندرية، ليعود بعد استعادة عافيته إلى العمل والنضال في إطار مكتب ” المغرب العربي “.

وبعودته لساحة النضال السياسي ترأس الأمير المغربي ” لجنة تحرير المغرب العربي ” التي تأسس من الأحزاب التالية :

  • من تونس: الحبيب بورقيبة والحبيب ثامر ممثلين لحزب الدستوري التونسي الجديد – ومحي الدين لقليبي عن الحزب الدستوري التونسي القديم.
  • من الجزائر: الشاذلي المكي و الصديق السعدي، ممثلين لحزب الشعب الجزائري.
  • من المغرب: علال الفاسي وأحمد بلافريج عن حزب الاستقلال – و محمد العربي العلمي وناصر الكتاني عن حزب الشورى والاستقلال – عبد الخالق الطريس و أمحمد أحمد بن عبود عن حزب الإصلاح الوطني – محمد اليمني الناصري عن حزب الوحدة المغربية.

وتكون مكتب اللجنة من الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رئيسا دائما، وشقيقه أمحمد بن عبد الكريم الخطابي نائبا له، ولحبيب بورقيبة أمينا عاما، وبن عبود أمينا للمال، وذلك يوم 12 دجنبر 1948م. وقد أرسى الأمير قواعد هذه اللجنة بالقاهرة وأنشأ فروعا لها في لبنان وسوريا، كما وجه عدة رسائل وموفدين إلى مختلف دول العالم الإسلامي لتعريفهم بدواعي وأهداف تأسيس هذه اللجنة.

وهكذا انطلق الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة ليكون مرة ثانية ذلك الصوت الذي تحدى الدول الاستعمارية باسم شعوب المغرب الكبير، وفي هذا الإطار راسله الزعيم الصيني ” ماو تسيتونغ ” يهنئه بالعودة إلى مركز القيادة، كما راسله زعيم الهند الصينية ” هوشيمنه ” يلتمس من تحريض الجنود المغاربة العاملين في الجيوش الفرنسية، على عدم الذهاب إلى بلاده لمحاربة الوطنين هناك، وهذا ما استجاب له محمد بن عبد الكريم الخطابي، وفعلا قد استجاب لندائه الكثيرون من هؤلاء الجنود. كما أن اليساري الثائر ” تشي جيفارا ” حرص في زيارته للقاهرة على لقاء الأمير وتحيته كأحد أول الملهمين لحركات لتحرر في العالم.

وقد عبر الزعيم الريفي عن دعمه وتأييده الكامل للمقاومة التي كانت تقودها الحركات التحررية الفلسطينية ضد إسرائيل، وقدم تهانيه للقادة العسكريين المصريين بعد ثورة يونيو 1955م، وقد أحاطه الرئيس المصري جمال عبد الناصر بكل عناية واعتبره ضيف شعب مصر العزيز.

وبعد خلع الملك محمد الخامس من السلطات الاستعمارية الفرنسية، في غشت 1953م، قام محمد بن عبد الكريم الخطابي بمساعي جليلة لدى الحكومات والدول الشرقية والغربية، والعربية والإسلامية لفائدة بلاده وملكه. وقد بقي على اتصال دائم مع زعامات المغرب يعمل على توحيد صفوفهم، حتى اضطر الاستعمار الفرنسي إلى إرجاع ملك المغرب من منفاه ومنح الاستقلال للملكة المغربية.

وتقلّص نشاط الزعيم الخطابي بمصر، لوجود الرقابة الصارمة على من يزوره أو يتردد عليه، واستمر الحال حتى غادر الدنيا  إلى جوار ربه في  السادس من شهر فبراير عام 1963م بالعاصمة المصرية التي دفن بها، ولا زال قبره قائما إلى حد الساعة، مع كثرة المطالب المغربية باسترجاع جثمانه لمسقط رأسه بالمغرب.

عن إدارة الموقع

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *